الحمد لله ذي العز والمهابة والجلال، حرّم الكسب الخبيث ورغب في الكسب الحلال، أحمده جل شأنه على ما أولانا من النعم ومزيد الأفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تفرد - سبحانه - بالأسماء الحسنى وصفات الكمال وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله كامل الوصف محمود الخصال صلى الله عليه وعلى الصحب والآل وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واعلموا أنكم غداً ستموتون وتبعثون وتحاسبون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون فارعوا سمعكم لخطاب ربكم لكم بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر: 18- 19).
معاشر المتقين في الحلقة الثامنة والعشرين من سلسلة يوميات مسلم ينتقل الحديث للموظف وحاله مع ساعات العمل وهي قضية مهمة خطيرة تستمد أهميتها من أن دخل المرء الذي يصرف منه على نفسه وأولاده يأتي مقابل ساعات العمل التي يقضيها المرء في عمله. فكيف هو حال أفراد الأمة مع ساعات العمل؟. هناك ثلة من أفراد المجتمع راقبوا الله في ساعات عملهم قبل أن يراقبوا ساعة أو سجل الدوام فالواحد منهم يحضر من بداية الدوام ولا يخرج إلا في نهايته ويعمل خلال ساعات الدوام بكل جد واجتهاد فأنت لا تكاد تراه فارغاً البتة، وهذه هي الصورة المطلوبة في العبد المسلم. وهناك ثلة أخرى تعرف أن بداية الدوام في السابعة والنصف على سبيل المثال وأن هناك فترة سماح نصف ساعة تمدها بعض الإدارات إلى ساعة من أجل توصيل الأولاد للمدارس، فيحرص على استنفاذ تلك الفترة بالكامل وإن لم يكن لديه أولاد يوصلهم أو كان لديه سائق أو ابن كبير يقوم بالمهمة!.
أتدرون أيها الأحبة في الله ما أثر ذلك؟. لنفترض أن إجمالي العاملين في مجتمع ما هو مليون عامل كل واحد منهم يتأخر عن بداية الدوام ساعة كاملة فهذا يعني أن مليون ساعة عمل معطلة، أي ما يعادل واحداً وأربعين ألفاً وستمائة وستة وستين يوماً إنتاجياً للفرد تذهب سدى بلا إنتاج، وهي تعادل ما يقارب مئة وستة عشر عاماً إنتاجياً للفرد من عمر الأمة بلا إنتاج، فكيف بالله بأمة تعد بالمليار؟. كم عدد من يتأخرون عن أعمالهم ساعة كل يوم؟. ثم نتساءل مال أمة الإسلام متخلفةً صناعياً واقتصادياً؟. فقولوا لي بربكم أي عاقل يرضى لأمته بمثل ذلك؟. أيُّ عاقل يرضى أن تنام أمته عن الإنتاج بما يعادل تلك السنوات؟. قد يقول قائل أنا فرد ولم أتأخر إلا ساعة من الزمان هل يوقف ذلك عجلة تقدم الأمة؟. فنقول له لا تنظر لنفسك فقط ولكن انظر كم هم المقصِّرون مثلك ولا يشعرون بالآثار المدمرة لتقصيرهم على الأمة؟. نقول له تخيل لو أن أمة الإسلام جميعها جاءت لأعظم وأضخم عمارة في العالم وأخذ كل واحد منهم لبنة واحدة من تلك العمارة هل يبقى من تلك العمارة شيئاً أم أنها تتحول إلى أثر بعد عين مع أن كل واحد لم يحمل إلا لبنة واحدة فقط!. وقد يقول الموظف المقصِّر إنما أتأخر بإذن من رئيسي، فنقول له أنت المسؤول الأول عما تعمل فيوم القيامة تكون المسؤولية فردية أخبرك عن ذلك ربك بقوله: } يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ{(النحل: 111). وبقوله: } كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ {(المدثر: 38). ثم نقول للمدير أو المسؤول أنت مؤتمن وستسأل أنت أيضاً عن ضياع تلك الساعات من العمل فلا مجال للمجاملة في مصير الأمة ومستقبلها أنت مؤتمن ومسؤول أمام الله عن ساعات العمل بإداراتك، وضع المسؤولية في عنقك نبيك - صلى الله عليه وسلم - بقوله فيما أخرج الإمام البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَt: (..وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)(البخاري، الجمعة، ح(844)).ومع الأسف أصبح المدير الذي يتق الله ويحرص على تطبيق ساعات الدوام الكاملة ينعت بالمتشدد والمُعقَّد وغيرها من الصفات الذميمة مما جعل بعض المديرين يضعفون و يتساهلون أمام هذه الصفات والضغوط النفسية، فنقول له لا يا أخي لا تتساهل واحذر أن تبتغي رضى الناس بسخط الله؛كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ tأَنْ اكْتُبِي إِلَيَّ كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ وَلَا تُكْثِرِي عَلَيَّ فَكَتَبَتْ عَائِشَةُt إِلَى مُعَاوِيَةَ سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ) وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ (الترمذي، الزهد، ح(2338)[الحديث إسناده صحيح إلا أنه منقطع فيه رجل مبهم]).نعم أخي المدير هناك حالات طارئة وظروف عاجلة تقدر بقدرها ولكنها استثناء وليست هي الأصل. وليت تلك الطائفة المُقصِّرة ترضى بذلك بل تجد كل واحد منهم قد أحضر معه طعام الإفطار له ولزملائه فيضيِّعون في تناول الإفطار وما يتخلله من أحاديث جانبية نصف ساعة تقريباً!. أي ما يعادل ثمانية وخمسين عاماً إنتاجياً للفرد!. ثم أثناء الدوام يُضَيَّعُ وقت في قراءة الصحف اليومية أو في تحليل المباريات الرياضية أو حال الأسهم والأسواق المالية لا يقل عن ساعة من الزمان!. وهي تعادل ما يقارب مائة وستة عشر عاماً إنتاجياً للفرد من عمر الأمة، ثم قبل نهاية الدوام بساعة أو أكثر يطالب المدير بالخروج لإحضار الأولاد من المدارس وساعة أخرى تضيع أيضاً على الأقل ويضيع معها ما يعادل مائة وستة عشر عاماً إنتاجياً للفرد من عمر الأمة؛ فيصبح إجمالي ما يضيِّعه مليون عامل في الأمة على تلك الشاكلة يعادل أربعمائة وستة أعوام إنتاجية للفرد الواحد من عمر الأمة؟. هذا في اليوم الواحد فكيف في الأسبوع وكيف في الشهر وكيف في العام؟. فلا إله إلا الله ما أعظمها من جناية يجنيها المقصِّرون على أمتهم وعلى أنفسهم وعلى مستقبل رفاهية أولادهم!. فتلك الساعات المهدرة من العمل تؤثر سلباً على الاقتصاد فيتدهور وتضيق المعيشة وتضيق معها فرصة الرفاهية للأجيال المقبلة. }وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ{(التوبة: 105).